قبل دقيقتين من إطلاق الحكم لصافرة النهاية في مباراة مصر وكوستاريكا كانت جماهير المقصورة التي شهدت حضوراً كبيراً من الشخصيات العامة أبرزهم د. زكريا عزمي، ود. حاتم الجبلي، وحسن صقر، وسمير زاهر، ومحمد فؤاد، وهيفاء وهبي وزوجها أحمد أبوهشيمة، ونجوم كأس العالم للإسكواش رامي عاشور، وعمرو شبانة، وكريم درويش قد تركت مكانها وبدأت في المغادرة، وكأن الجميع قد انفض من سرادق عزاء! وبالتزامن بدأت أغلب الجماهير في مغادرة المدرجات بعد أن أصبح الأمل مستحيلاً والخروج يقيناً.
ومع إطلاق الحكم لصافرته بدأت مباراة أخري في القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية،فقد انطلقت كتيبة كبار المحللين والمعلقين في تحليل أسباب الهزيمة وتعليق الرقاب علي المشانق ونصب الشماعات الجاهزة لحمل مسئولية أي نتيجة ولكل معلق ومحلل آراء ورؤي.
بدأت المباراة ساخنة واحتفظت بسخونتها في سوء الأداء التحليلي الإعلامي الهوائي والذي كان أكثر سوءاً من الأداء الكروي للفريق المصري في ملعب استاد القاهرة الرائع وسط حضور جماهيري أكثر روعة، ليؤكد هؤلاء الكبار في التعليق والتحليل أنهم أصحاب فهم وفكر بل هم المادة الخام للفكر العلمي والموضوعي وهم يؤدون دورهم ببراعة في الكشف عما أصبحت عليه الشخصية المصرية في تقييم الأمور، فالإعلام الرياضي قد حقق (في أغلبه) إعجازاً وإنجازاً في تأصيل أسوأ القيم في المجتمع، وتتجلي هذه القيم في الظهور مع إطلاق أي حكم لصافرته في نهاية مباراة تكون مصر طرفاً فيها سواء كانت تلعب بالفريق الأول أو الشباب وسواء كنا فائزين أو مهزومين.. الإعلام الرياضي في هذه اللحظة تحديداً يقدم أغلبه فرصة عظيمة لأي محلل اجتماعي أو نفسي لتقييم حالة المجتمع بدقة ورصد أسباب العلل والخلل بسهولة.
وإليكم أبرز أسباب الهزيمة:
من وجهة نظر غالبية خبراء التعليق والتحليل: أبرز التعليقات التي تصدرت المشهد الإعلامي مساء السادس من أكتوبر هو تعليق شماعة الخسارة علي أنها ذنب الشيخ ربيع ياسين وبركاتك ياعم الشيخ!!
والسؤال: هل إذا لم يسبق لقب الشيخ اسم ربيع ياسين كان لهذه الشماعة أن تظهر؟
والسؤال الآخر: إذا كان الشيخ هو المدرب والفريق المصري مهزوم.. هل كان سيتم سحب اللقب المبجل منه وإعادة لقب الكابتن إلي ربيع ياسين، وبالتالي يكون ذلك مبرراً كافياً لإهدار دمه وتعليق رقبته علي مشنقة البوابات الإعلامية مجتمعة؟
--
البعض الآخر من المحللين أصر علي أن سبب الهزيمة النكراء هو كابتن بوجي.
لماذا؟
لأننا انهزمنا أخلاقياً عندما رفضنا ذبح بوجي والتضحية به.ولأننا لم نجعل بوجي عبرة لمن يعتبر كما يري بعض جهابذة التعليق والتحليل، فقد كانت الهزيمة قدراً وشراً لابد منه وكان لابد أن نخسر وخسرنا بالفعل.
فريق ثالث معاكس قام بمزايدة علنية واجتهد في تعميق أسوأ صور التعصب، فهذا الفريق يري أن الجهاز الفني انهزم يارجالة.
لماذا؟
لأنه منحاز لـ محمد طلعت باعتباره أصبح لاعبا في الأهلي.. فالجهاز الفني لا يحب ولا يفضل سوي اللون الأحمر، ولهذا كان هناك اضطهاد طبيعي لبوجي ومن ثم فقد كان لا يجب معاقبة بوجي بل وجب عقاب الجهاز الفني الذي لا يحب اللون الأبيض الذي فضله بوجي عندما وقع للزمالك بالعند في جهازه الفني الأهلاوي!!
وصل العمق إلي أقصي مدي في بعض تحليلات السادة الكبار من خبراء اللعبة فأشاروا إلي أن المعسكرات الطويلة وفترات الإعداد أصابت اللاعبين بالملل والسأم، فتكوين اللاعب المصري يجعله لا يحب القيود فأطلقوه!!
وارتفعت بعض الأصوات الأخري تطالب بقطع رقبة سكوب وترحيله فوراً، ووصفه أحد المعلقين بأنه لا يفعل شيئاً سوي أنه يشعر بوسامته ويبتسم!! ولابد أن يرحل فوراً ولا يشرب من نيلها.. لأنه مابيعرفش يغنيلها وليته تاه قبل الوصول لمطار القاهرة.. وهل هناك أفضل من المدرب الوطني اللي مافيش زيه؟!
أما السؤال العبقري والذكي والمهم جداً الذي جري في مباراة المزاد العلني علي الهواء فهو: ماذا كان يدون سكوب بعد الهدف الثاني والتأكد من الهزيمة؟ هنا.. لم يتمالك أحد المعلقين نفسه وقال بالنص: بيكتب إيه؟! يروح يتنيل!!
هكذا بالنص.. ولم يقل لنا يتنيل فين؟ وما هو شكل النيلة التي يجب أن يفعلها؟!
أما قناة النيل للرياضة فلم تكتف بالتحليل والتعليق وإنما قامت بالتجويد والإبداع الخلاق فقد قامت باستغلال لحظات ألم مدربنا المصري الشاب المخلص هاني رمزي الذي جلس أرضاً يبكي في صمت، ومرارة وانفعال عفروتو الذي كان يضرب الأرض حتي أغمي عليه من الحزن والبكاء.. استغلت تلك اللقطات لتعرضها مع مؤثر صوتي رائع فقد كان صوت عبدالحليم حافظ ورائعته راح.. راح.. راح.. خد أملي وراح هو خلفية هذه اللقطات حتي يكتمل الفكر الإبداعي الفذ!!
--
ولأن السيرك مفتوح والمزاد مستمر والمباراة التحليلية علي الهواء مباشرة لمن يريد إسالة دم من يريد.. ولأن المشاهد يتأثر بما يسمع فهو يدلو بدلوه في هذه المباراة، وتبدأ عدوي الانفعال إرسالا واستقبالا، ليتحول أغلب جمهور الكرة إلي كورس لا يعرف النشاز وينبري في ترديد ما يقوله جهابذة التحليل وتشتعل السخونة وتنتعش المزايدات وتنطلق علي نحو أشمل وأعم، وهكذا تتكشف أغلب أجزاء الصورة لتكشف عن المرض العضال والفيروس الحقيقي الذي أصاب الشخصية المصرية وأعراضه حمي الانفعال الذي يؤدي إلي العمي العلمي والمنطقي.
أما لو كانت النتيجة هي فوز مصر رغم الأداء السيئ، ولو كان السيناريو حدث علي النقيض فتكلمت قدم عفروتو وأحرزت هدف الفوز بدلا من دموعه التي انهمرت حسرة علي الخسارة؟
أو لو كان بوجي قد أحرز هدفاً أو هدفين مثلما فعل في مباراة إيطاليا؟
لو صعدت مصر رغم أنها لعبت أسوأ مباراة؟ فالمؤكد أن الوصف التفصيلي لمباراة التحليل والتعليق الإعلامي الأرضي والفضائي كانت ستجعل من سكوب الفاشل حالياً، أعظم مدرب جاء إلي مصر، والأجنبي يكسب!!
ليس هذا فحسب، بل كان سيصبح سكوب الذي لم يتحرك ولم يتأثر صاحب فكر ومدرسة.
وكان بوجي سيصبح نموذجاً وقدوة وستبدأ المطالبة بالدفع به في منتخب الكبار ليجلس عمرو زكي احتياطياً ،لأنه سيقود مصر إلي كأس العالم للكبار!
وهؤلاء اللاعبون الملعونون الآن كانوا سيصبحون ملائكة من السماء وعباقرة قلما يجود الزمان بأمثالهم، وكانت العيون التي لم تر هاني رمزي الذي لم يجلس لحظة واحدة وهو يوجه ويصرخ، ستراه الأب الروحي الذي استطاع لم شمل هؤلاء الصغار الكبار، ولكان نصر ٦ أكتوبر ٢٠٠٩ علي كوستاريكا في نظر هؤلاء أهم من نصر أكتوبر ١٩٧٣!!
--
الجميع كان سيتسابق في ضرب النار لتأكيد فرحته وتحية أصحاب الفرح، لكن وبما أن الفرح انضرب فالضرب في الميت حلال ومباح وجائز ولابد منه، والجنازة لازم تتم!! وقد تمت!!؟