تجـــرأ وكــن لطيفــاً
نشرت صحيفتا الجارديان والإندبندنت عرضا لكتابين مهمين ظهرا حديثا بعنوان "فن ممارسة الطيبة: تجرأ وكن لطيفا" للطبيب إستيفان أينهورن وكذلك كتاب "فن اللطف" للفيلسوف وعالم النفس الإيطالى بيارو قروتشى وكتب مقدمته الدلاى لاما ويخلص الكتابان إلى أن العزلة التى تمنحنا الإحساس بالطمأنينة هى فى الوقت نفسه التى تجعلنا تعساء.. كأنها ضريبة حتمية لحماية الذات حاول المؤلفان أن يحاضرا الناس عن الطيبة واكتشفا أنه لابد أن ينبرى أحدهم أو معظمهم للتنديد بالغباء ووصفوا اللطف بالسذاجة.
يقول المؤلفان: هب أننا لا ننفى عن بعض أجناس الطيبة صفات البساطة التى قد تبلغ الغباء.. فهل يمحو ذلك جمال الطيبة؟!
نحن فى "روزاليوسف" طرحنا نفس الاستفهامات على اثنين من مشاهير الطب النفسى والأدب هما دكتور أحمد عكاشة والروائى إبراهيم أصلان واكتشفنا أن الإنسان واحد فى كـل زمان ومكان.
فى مواجهتك مع الروائى الكبير إبراهيم أصلان أنت لن تعتمد فقط على هذا الزخم من شخوصه الأدبية المدهشة، بل أيضا على شخوص أخرى صارت تتناثر فى كتاباته النثرية الصحفية بمقاله الأسبوعى الشهير.
لكنك قد تظل عند هذا الحد، أنت فقط فى مواجهة شخوص متخيلة أو حقيقية تعرفها حق المعرفة ولا تعرف عن كاتبها إلا القليل، بالرغم من أن بعض نصوصه النثرية فى صحيفة "الأهرام" أسبوعيا قد أتاحت لنا بعض إطلالة من عتبات مدخل إبراهيم أصلان.. فقد صار يحكى عن نفسه وأصدقائه نوادر القصص.
أنت من الأدباء القليلين الذين يحظون بشهرة وأضواء الممثلين.. ونحن نعرف عنهم الكثير بالرغم من تبدل وتباين أدوارهم المتقمصة.. ولا نعرف شيئا عنك.. مثلا هل أنت كائن طيب أم شرير؟
- أعتقد أننى كائن طيب، لكن الأمر لا يخلو من بعض الحيل والمداعبة، هذه المداعبة قد لا يتفهمها البعض أحيانا، وقد تترك لديه انطباعا أن وراءها شيئا من عدم الطيبة، وعلى أية حال فأنا لا أمارس هذه الحيل إلا قليلا.
حدثنى عن أخطائك وذنوبك؟
- الأخطاء التى أندم عليها هى أفعال واردة، سوف أحكى لك آخرها حين كنت فى مرسى مطروح داخل فعاليات مؤتمر أدباء الأقاليم الأخير منذ أشهر قليلة، وكنت قد كتبت عن هذه الرحلة بعد عودتى للقاهرة، هذه الكتابة التى أغضبت صديقى خيرى شلبى، وكان خيرى قد حكى حكاية إنسانية شديدة العذوبة أثناء المؤتمر حدثت بينه وبين ألفريد فرج قبل وفاته، واعتقدت أننى بهذه الكتابة سوف أضع خيرى شلبى فى حالة إنسانية جميلة.
احكها؟
- كان خيرى يقوم بإعداد برنامج إذاعى، ومرة سمع ألفريد فرج هذا البرنامج وطلب من خيرى شلبى أن يحضر له تسجيل الحلقات، ووعده خيرى أنه سوف يفعل، واكتشف خيرى أن الشرائط مفقودة وظل يبحث عنها ولم يجدها، ومرت الأيام والسنوات، وفجأة حين فتح خيرى شلبى أحد أدراج مكتبه صدفة وجد الشرائط مرصوصة به، فرح بشدة وحمل الشرائط متوجها إلى منزل ألفريد فرج فى شارع شامبليون بوسط القاهرة، لكنه عند باب المنزل تذكر أن ألفريد فرج قد مات منذ عام!
ظل خيرى واقفا أمام باب منزل ألفريد فرج، ثم دلف قليلا داخل مدخل العمارة، ثم خرج إلى الرصيف ورفع رأسه إلى الدور الثانى ونظر إلى بلكونة شقة ألفريد فرج وكأنه قد قام بواجبه كاملا.
لقد كتبت فى استهلال المقال الذى أغضب خيرى شلبى منى هذه العبارة:
"المعروف أن خيرى شلبى اسمان لشخص واحد"، لقد رأى خيرى أن هذا الفصل يتضمن رأيى فى أعماله!
ولم يتوقف عند الإحساس الجميل الذى أردت شرحه للقارئ عن هذه الواقعة، ومن ثم فقد غضب جدا، مع أننى لم أشرح رأيى فى كتاباته، وهذا حقى لو فعلت، من حقى أن أنقد وأشرح وأفتى برأيى فى أى كتاب لأى كاتب مادام قد تم طرحه وتداوله.
الغريب أن كل أصدقائنا - خيرى وأنا - اتصلوا بى وأبدوا إعجابهم بمقالى هذا!
أحيانا يتم تفسير بعض المواقف طبقا لمستلزمات الحكى فيتم فهم الحالة بشكل غير صحيح، هذا يحدث من قبل أصدقاء مهيئين لذلك.
هل قلبك أسود؟!
- ليس بينى وبين أى إنسان أى مشكلة، رغم إدراكى أن بين البعض وبينى مشكلات جمة، لكن قلبى ليس أسود، بل إننى مواطن متسامح طوال الوقت، وهنا أحب أن أوضح أن هذا التسامح ليس بمزاجى، بل لأننى أنسى طوال الوقت.
فلماذا غضبت من خيرى حين غضب منك؟
- أنا غضبت لأننى تكبدت مشقة الكتابة عنه فى مشهد إنسانى وفريد مثل ذلك المشهد، ولأننى كتبت ما كتبت بإحساس طيب تجاهه فعلا، لكن غضبه منى جعلنى أشعر بالاستياء والضيق والقرف من نفسى!
المشكلة أن هذا المشهد الذى قصه خيرى عن ألفريد فرج وقمت بالكتابة عنه فى مقالى الأسبوعى قد صنع استجابة إنسانية بداخلى، ولو قمت أنا بعمل حسابات لمثل هذه الاستجابات سأتوقف عن الكتابة، كل الأشياء قد أتسامح فيها إلا الكتابة!
لحظة الكتابة هى لحظة ممارسة حريتى المطلقة، لأن الكلمة لن تكون حقيقية - قصا أو نثرا - إلا لو استندت إلى جمل حقيقية، وإن لم تكن هذه الجمل موجودة فعلا فلا وجود لعمل حقيقى، أنا هنا أتحدث عن مجرد التوصل لجملة حقيقية.
ألا تعترف بوجود ازدواجية بين ما تكتب وبين ما أنت عليه إنسانيا؟
- لا يوجد أى خلاف ما بين داخلى وما بين خارجى وما بينى وما بين ما أكتبه، ليس معنى هذا أنى رجل "غُفْل" لكننى أدرك أن ثمة أناسا - حتى بين المثقفين - هم أوغاد حقيقيون، وليست كلمة "مثقف" هى عنوان لرجل محترم أو شريف، لكننى أنظر للناس كما هم عليه.
حين تنظر للناس كما هم عليه هل تحبهم كما هم عليه؟
- الطيبة الظاهرة منى هى انعكاس لحالة الحب الشديد للإنسان بما هو عليه، ولدىّ إيمان حقيقى أننى لو اقتربت من أى إنسان وأحسست به لا أستطيع كراهيته حتى لو كان من أراذل خلق الله.
ألم تفكر يوما بالانتقام أو الحقد أو حتى ممارسة الشر للشر؟
- لا، ربما لأننى مدرك أن هذه الأشياء هى تعبير عن عجز إنسانى، أنا أكتفى بأن أعرف الناس كما هم عليه، وهذا لا يعنى أن الناس يتساوون عندى، لكننى لا يتم استدراجى أو اللعب بعقلى لأننى أعتمد كثيرا على حدسى، فلم يتم خداعى ولست فى حالة قبول ووله لكل الناس.
لكن الشخص الطيب الذى هو الذى يعيش حالة دائمة من القبول والوله بكل الناس، أما أنت فمسرور أحيانا، وغاضب أحيانا أخرى.
- الغبى فقط هو الذى يعيش حالة قبول ووله لكل الناس أو هو "العبيط"، أما كونى مسرورا أو غاضبا فليس صحيحا، لأن الإحساس بالمرارة "يفحم" الناس ويجعلهم فى حالة "تدخين"، وتبدو واضحة للأنوف رائحة "الشياط" وهى تنطلق من دواخلهم، لكننى قد أغضب وأقرف!
وأقول لك أنه لا يعنينى أبدا ولا يشغلنى إحساس بالمرارة، فمعركتى ليست مع أحد، بل مع إبراهيم أصلان، أنا أكتب حواديت وحكايات، وحياتى كلها مجندة لخدمة هذا الغرض، فأنا أتعلم النثر الذى أكتب به أعمالى وهو قضية عمرى كله، أنا سعيد بما حققته رغم إدراكى بأننى أضعت طويلا من العمر لقسوة الحياة.